الخميس، 2 أغسطس 2018

أعراض انهيارات مفاجئة....بقلم الاستاذ كمال عبد الله



اختفت شمس يوم آخر خلف الجبل الذي التحف ظلالَ الصّنوبر القاتمة...لم يجد أيّ تفسير ممكنٍ لهذا الألم الذي يعتصر أحشاءه ...اجتاز ساحة المدينة التي انتشرت بها أكداس القمامة...قدّرَ بأنّه سوف يلتقي بالبعض من أصدقائه بالقرب من الخمّارة التي تنتصب بـ"ساحة الاستقلال"...شيء ما يحدث داخل رأسه و لا يستطيع فهمه...وقفت سيّدة ، تبدو غريبة، بالقرب من الصّيدلية التي تتوسّط القرية...وغير بعيد عنها، انتصب أحد أصحاب عربيّات الخضار محاولا لفت انتباه المارّة الغير مبالين بما يعرضه من السّلع التي غيّرت شمس اليوم الحارقة ألوانها فبدت مثل جثث القطط النّافقة...اقترب من باب الخمّارة فدفعه بشيء من الحذر...كم يرغب بإلقاء جسده المرهق على أحد هذه الكراسي البنيّة...وكم يرغب بالنّوم...لما يزيد عن اليوم أو أكثر وهو يشعر بها تبتعد عنه...كان يشعر بها وهي تنفصل عن لحمه بطريقة مؤلمة جدا...حاول البحث في تفاصيل أيامه الماضية فلم يجد شيئا غير الصّمت...
- أستاذ....؟
- زجاجة نبيذ....لا أريدها باردة جدا من فضلك...
- تأمر أستاذ...
أخرج من جيبه صورة لها وهي تغادر "بيسين النّزل"...كان وجهها يبدو و كأنّه قد فقد ملامحه...وبدت وكأنّها لا تقول شيئا...لقد اختفت من وجهها كل تلك الإشراقة التي كانت تنتشر على ظلال عينيها...أعاده صوت النّادل إلى عالم الاكتئاب الذي ينهش أحشاءه...
- كيف تجد هذه الزّجاجة أستاذ...؟
- لا بأس بها...افتحها...
منذ أن أحبّها و هي تملأ دنياه ولم يكن يعتقد بأنّها قد تهجر عالمه يوما...ولكنّه يشعر، ومنذ يومين أو أقل، بأنّها تنسحب في ألم موجع من صدره...التفت إلى النّافذة التي كانت بجانبه...أضواء التنوير العمومي التي اشتغلت منذ دقائق تبدو باهتة جدّا...بعد قليل سوف ينتشر سكّان القرية من الرّجال بالشوارع وسوف تنتشر النساء و الصّبايا على أبواب المنازل هربا من القيظ القاتل...ملأ كأسه الأولى ثمّ أشعل سيجارة من سجائره المهرّبة...انتقل الوجع الذي ينتشر داخل رأسه إلى انقباض فظيع بصدره...لقد قالت له في آخر رسالة لها بأنّها سوف تنتظره...أمسك بالملعقة الصغيرة الموضوعة أمامه بين أصابع يده اليسرى ثم كتب الحرف الأوّل من اسمها على طاولة الخشب البنيّة التي كان يجلس إليها...كان الحرف "........" مائلا قليلا إلى اليمين...لم يكن جميلا جدّا و لكنه كان مقروء...وضع الملعقة الصّغيرة بالقرب من الكأس التي تجرّع نصف ما بها من الخمرة ثمّ عاد ينظر من النّافذة إلى جحافل المارّة التي كانت تمرّ بالقرب من الخمّارة...وضع يده على صدره محاولا تحسّس الوجع الذي كان يخنقه...لم يشعر بشيء...لم يشعر بأي شيء تحت أصابعه التي كانت تتحرّك في بلاهة فوق القميص الأزرق الذي أهدته إيّاه يوما ما...
- سوف تقتلك الخمرة إذا ما لم تتوقّف عن حياة المدمنين التي تحياها....
- تعلمين بأنّني لست مدمنا....
- أنت مدمن حبيبي...وهذا شيء يخيفني....
يشعر في مكان ما منه بأنّه لن يستطيع الإحساس بجسده...يشعر بأنّ جسده قد أصبح مجرّد كتلة من اللّحم الغريب عنه...غادر طاولته ثم اتجه نحو دورة المياه...لقد أحسّ فجأة برغبة قاتلة برؤية وجهه الذي لم يعد يشعر به أيضا...
- هل أنت بخير....؟
- نعم...
- لا أرى بأنّك كذلك صديقي...هل تشعر بشيء ما...؟...هل تشعر بضيق في التنفّس أو بأيّ شيء غير اعتيادي....؟
- لا...
رائحة دورة المياه تشبه إلى حدّ كبير رائحة السّجن...ضحكات بعض السّكارى الذين كانوا يستمعون إلى إحدى النّكات الجنسية تقتحم عليه حالة القلق التي كانت تنتشر على وجهه...لم يحلق وجهه منذ أيّام...لم يشعر بكلّ هذا من قبل...لم يشعر بأنّ الصّمت قاتل إلى هذه الدّرجة الموجعة...تبد ملامحه متعبة جدّا ولكنّه أحس بأنّ هذا الشيء الذي يراه أمامه على المرآة المشوّهة هو وجهه...عادت ضحكات السّكارى تملأ رأسه من جديد...عندما فكّر بالعودة إلى طاولته البنيّة اصطدم بالباب الذي كان مفتوحا...اتكأ على الجدار للحظات إلى أن استعاد وعيه تماما ثم اتجه نحو الصّالة التي كانت شبه فارغة منذ قليل...بائع الفول يغنّي أغنية شعبية راقصة...
- أريد أن أراكْ...
- أفعل قريبا...
- هل تشعر برغبة في لقائي...؟
- طبعا...
اختفت أصوات السّكارى وهم يتطارحون النّكات الجنسية القذرة...اختفى صوت النّادل وهو يتحدّث إلى أحد الزبائن من الذين لا يريدون دفع ثمن ما استهلكوه من الخمرة...شيء كثيف أسود يخترق وجهه ثم ينتشر أمام عينيه...سوف لن يسقط...لن يسمح لهذه الظلال السّوداء باقتحامه...
- تحبّني...؟
- طبعا.....لماذا تسألين هذا السؤال...؟
صوت كعب عال يقترب منه...حاول رفع رأسه من على الأرض فلم يقدر...التفت يسارا فأبصر قضبان السكّة الحديد و كأنها أفعى ضخمة تقترب منه فاتحة فاها...رفع رأسه في عناء قاتل فأبصر وجهها يقترب منه...اختفت أفعى السكّة الحديد...اختفت أصوات السّكارى...اختفت النّكات الجنسيّة السّمجة...
- لماذا تفعل بنفسك كلّ هذا...ألا تريد أن تعيش من أجلي...؟
كان صوتها بعيدا جدّا و لكنّه كان يسمع صداه يتردّد في أعماقه....جلست بالقرب منه على الأرض فألقى برأسه فوق حجرها...تجمّعت كل الكلمات التي كان يريد قولها على شفتيه ولكنّه لم يكن يستطيع الكلام...أحسّ بيديها وهي تحمل رأسه إلى صدرها...
- أحبّكْ...
ألقى بقميصه الأزرق الذي أهدته إياه ذات يوم على أحد كراسي غرفة النوم ثم اتجه نحو النّافذة المشرعة...سوف يتناول بعض الحبوب المسكّنة...وسوف يحاول إفراغ رأسه من كلّ هذا الضجيج الذي يملأه...اختفت الظّلال السّوداء التي كانت تحجب عنه رؤية الأشياء المحيطة به...تناثرت صور متكسّرة داخل رأسه...رأى نفسه وهو يدفع ثمن ما استهلكه من الخمرة إلى النّادل...رأى نفسه وهو يجتاز الشارع نحو السّكة الحديد...أحس برأسه وهو يرتطم بالأرض...
- تناول هذه الحبوب...سوف تشعر بتحسّن كبير بعد ذلك...
- كيف جئتِ إلى هنا...؟
- لا تتكلّم...تناول هذه الحبوب فقط....

كمال عبد الله...تونس...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ناطرين بكرا تا يجي ... بقلم جميلة نيال

ناطرين بكرا تا يجي ناطرين بكرا تا يجي يطوي بحنانه المسأله و يا ريت بشويِّة أمل معهم كمان بنفسجه يمكن نغني بليلنا و يمكن ن...