الاثنين، 13 أغسطس 2018

حي الريحان....بقلم الأستاذ كمال عبد الله


للّيل مذاق الأشياء الممنوعة هذا المساء...منذ ثوان عبرت الجسر إلى الجهة الغربية من مدينة العشوائيات التي تغرق في الظّلام ما أن تختفي ضفائر الشمس خلف علب السّردين و الصّفيح التي تسكنها كائنات تكاد تكون لا بشرية من فعل الفقر...عندما أحتاج إلى لقاء الحقيقة التي أعشقها، أتسلّل من مدينة الإسمنت المسلّح و آتي سرّا إلى حيث تكون الأشياء على حقيقتها...هنا...في مدينة علب السّردين المتراكمة كأكداس النفايات، لا وجود لأي قانون...وقد قال لي أحد الأصدقاء بأنّ البوليس لا يأتي إلى هنا إلا نادرا...ونادرا تعني أنّه لا يأتي إلا عند حدوث جريمة لا يستطيع التغاضي عنها...هكذا تسير الأمور هنا...لخذا الجزء من المدينة قوانينه التي لا تعترف بقانون  الجزء الآخر منها...وللحياة مذاق مختلف تماما...اتجهت نحو البار الغير قانوني...وهو ليس بارا أو حانة بالمعاني المتداولة..هومنزل أعدّه صاحبه ليبيع به الخمرة سرا لأنه لا يمتلك رخصة قانونية تسمح له بمزاولة هذا النشاط...وقد تعوّد صاحبه على رشوة عناصرالشرطة حتى تتغاضى عنه ، وهو ما لا تفعله دائما...فترى " الحاج سالم" متأرجحا دائما بين السّجن و بين بيع الخمرة خلسة...قبل وصولي إلى بار " الحاج سالم" رأيت " سمير" وهو أحد الشخصيات الأمنيّة الهامّة في مدينة الاسمنت المسلّح وقد أوقف سيارته الرّباعية الدّفع تحت شجرة المشمش التي توجد قرب منزل " منيرة جاكلين" ثمّ رأيته وقد أسرع نحو بيت "منيرة جاكلين" خوفا من أن يراه أحد...كان منظره مثيرا للسخرية وهو يسرع مثل الكلب الخائف نحو المنزل وكأنّه يأتيه لأول مرّة...لقد كان كل سكان المدينة المتعفنة يعرفه...و تعرف كل الناس بأنّه يدفع لــ "منيرة جاكلين " ما لن تحصل عليه حتى ولو كانت سفيرة في نيويورك...سيكون من الأمانة القول بأنّها كانت ترضي كل أمراضه الشاذة...كانت تضربه...تلعنه...تسبه...وكان يجد لذة في ما كانت تفعله معه...ولم تكن تخفي هذا...كانت تتحدّث بما تفعله معه لتغيض مومسات الحي...
- مساء الخير أستاذ....
- مساء الخير...."الحاج سالم" موجود...؟
- نعم إنه هنا...ادخل...
كم أشعر بالراحة في هذا المكان الحقير...غرفة قذرة...أربعة أمتار على أربعة...أريكة جلديّة لن يستطيع حتى خبراء الأشياء القديمة تحديد عمرها...بعض الكراسي...مائدة ألقيت فوقها بعض قوارير البيرة الفارغة و بعض زجاجات الخمر...و أشباح توحي بأنها أشياء بشرية...ثم لا شيء باستثناء رائحة الحشيش المميّزة...
- ماذا ستشرب الليلة أستاذ...؟
- أيّ شيء...
- هل تعرف شخصا نافذا في أجهزة الشرطة...؟
- نعم...ما الأمر..؟
- لقد أوقف البوليس اليوم ابنة أخي...أقسم لك بأنّها لم تفعل شيئا...
- دعك من هذا...كم عمرها...؟
- سبعة عشر عاما...
- وأين أوقفها البوليس...؟
- أمام تمثال الزّعيم....
- ألم تجد مكانا آخرتقف فيه غير هذا المكان...؟...سوف أرى ما يمكنني فعله غدا...ما اسمها...؟
- بلقيس...
- سألتك عن اسم ابنة أخيك لا عن اسم ملكة سبأ....
- آه...اسمها " نجوى"...ولكنّنا نسمّيها "بلقيس" كذلك.....
- اتفقنا...جئني بزجاجة "كوديا"....
     هكذا تسيرالأمور في هذه العلبة الكبيرة المتعفنة...بين أقسام الشرطة و الحياة الليلية الغنية بالمفاجآت...أنتبهت إلى الجسم الملقى قربي...كان الضوء خافتا فلم أتبين سوى كتلة تتحرك في صمت و شرارة نار تخبو لتظهر من جديد...ملأت كأسا كبيرة من زجاجة الــ " كوديا" ...الكوديا هي خمرة تونسية الصّنع...ثم عدت لأنظر إلى كتله اللحم الملقاة بجانبي من جديد...
- كيف حالك أستاذ...؟
- بخير...هل أنت بخير...؟
- نعم...يبدو أن " الحاج " يغشنا...لقد انتقلت إلى العالم الآخر من النَّفَسِ الأول....
- ستستطيع العودة إلى بيتك...؟
- لست أدري....
إنّه الجواب الذي كنت أنتظره منه...يستحيل عليك أن تعرف في ما إذا كنت ستستطيع العودة إلى بيتك عندما تدخل حانة " الحاج"...شيء سحري يختلط بالخمرة أو بالبيرة أو بالحشيش ويخرجك من التاريخ...ينتهي الماضي و المستقبل و يختلط الحاضر بدخان " حشيش القنّب"...مع ما تتعاطاه من الخمرة المهربة...مع أغاني بعض المسطولين وفي ثوان تجد نفسك في متاهة لذيذة رائعة...
- هل تعرف شخصا يريد أن يشتري ذهبا مهربا من إيطاليا....؟
- تبيع الذهب ؟
- لا....مجرّد خدمة أريد أن اقدمها إلى صديقتي...هي التي طلبت مني ذلك...
- ومن هي صديقتك...؟
- دعك منها...إذا كنت تعرف شخصا يرغب بهذا أعلمني أو أعلم " الحاج"
انتبهت إلى كتلة اللحم المرميّة بالقرب منّي وهي تزحف نحوي...ويبدو أن حديثي مع "ألباتشينو" قد أثاره...
- إنها أخت زوجته...صديقته هي أخت زوجته...وهي صديقته/صديقته...
أفرغت آخر كأس من زجاجة الـ "كوديا" في كأسي ثم ألقيت به جوفي....كان طعمه مثل الكبريت...أخذت حبة زيتون من الصّحن الذي جاء به "الحاج"...كانت مالحة جدا...ثمّ طلبت زجاجة أخرى...لا شيء حقيقي يدعوني إلى المجيء إلى هنا...هو فقط الفراغ و الرغبة في الخروج من عالم النفاق الذي أعيشه كل يوم في مدينة الاسمنت المسلح....
- من سمىّ هذا الحيّ بحيّ الرّيحان...؟
- لا أدري...ولن تكون سوى البلدية هي التي فعلت ذلك....
- أعتقد ذلك أيضا...
بدأت أشعربدوار شديد...لاشك بأن سببه هوهذه الــ" كوديا" المغشوشة التي أشربها...ومع هذا الشعور الفضيع بالوجع الذي بدأ ينتشرداخل رأسي، كنت أشعر بشيء كالخدر الذي أحسسته قبل أن يغمى عليّا بالمستشفى لما ذهبت هناك لانتزاع كليتي...كان شعورا جميلا يتأرجح بين اليقظة و الرغبة في الإغفاء...
- هل تريد سيجارة أستاذ...؟
- لا... شكرا....لا أحب تدخين الحشيش...
- كما تشاء أستاذ...كنت فقط أريد أن أعبر لك عن الشرف الذي يحصل لي لو شاركتني تدخين هذا الصنف الرائع......
- شكرا لك...
نهضت من مكاني ثم اتجهت صوب " الحوش"...لقد أحسست ببعض الانتعاش عندما لفح وجهي نسيم الليلة الرائع...غدا هو يوم الأحد...سوف لن أستيقظ من النوم إلا بعد العاشرة...هذا لو تركتني ابنتي نائما طبعا...
- ما الذي يجري يا "حاج"...؟
- لست أدري...لقد سمعت صراخا يأتي من منزل "جاكلين"...
- هل تكون الشرطة ...؟
- لا...كيف تكون الشرطة و سمير الشرطي معها....
- تريد ان نذهب لاستطلاع الأمر...؟
- لا ...لا أريد ذلك...لنعد إلى الداخل.....يكفيني من المشاكل ما أنا فيه...
- لنعد إلى الداخل....

كمال عبد الله...تونس....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ناطرين بكرا تا يجي ... بقلم جميلة نيال

ناطرين بكرا تا يجي ناطرين بكرا تا يجي يطوي بحنانه المسأله و يا ريت بشويِّة أمل معهم كمان بنفسجه يمكن نغني بليلنا و يمكن ن...