أفكّر فيك...قبل قليل، ارتمت الشمس خلف مباني المدينة الرماديّة الموحشة وانتشر الصّمت...جلست إلى مكتبي باحثا عنك بين التفاصيل التي كنّا نلتقي عنها...فتحت النّافذة فاقتحمت ظلال كئيبة مكتبي و غير بعيد عنّي كان "بوتشي" الكلب يفكّر بصمت في ما يمكن أن يفعله عندما أكون على حافّة الجنون...أشعلت سيجارة ثم ملأت الكأس التي كانت أمامي بشيء من الخمرة الرديئة...تقول نصوص قديمة بأنه لا فرق بين الوداع والموت...فالموت حالة يصمت فيها كل شيء...تماما كما هذا الفراغ الذي يملؤني بهذه اللحظات التي أصبحت عقارب ساعتي الحائطية فيها مجرّد قطع من المعدن الغبي...اقترب مني "بوتشي" الكلب...وضع رأسه على فخذي ثم رفع نحوي عينان من الجمر...كان حائرا في ما يمكن أن يفعله...ليومين مَضَيَا كنت أفكّر بكتابة شيء حول الحب...كنت أفكّر بكتابة شيء من الشعر حول الرّحيل...ولم أفعل...أقفلت النافذة ثم عدت إلى مكتبي...سيجارة أخرى...كأس أخرى من الخمرة الرديئة...عندما دخلت السجن بتهمة التظاهر الغير مرخص والاضرار بملك الغير، كنت لم أتجاوز السابعة عشرة من العمر...كان شعوري بالليلة الأولى من السجن تماما مثل هذا الشعور الذي يعتريني الآن...كنت أشعر بأنّني كتلة من اللحم التي لا يربط بينها و بين الواقع شيء...وهو تماما ما أشعر به الآن...أحتاج الحزنَ...تماما كما تحتاج الزهرة ضوء الشمس...ولكنني لا أشعر بالحزن الآن بقدر ما أشعر بالرغبة في أن ينفجر شيء ما داخلي فينهي مني هذه الكتلة الحمقاء من اللحم التي هي أنا...أمسكت بالقلم بين أصابعي ثم شرعت في تحريكه على ورقة كانت أمامي...لم أكن أفكّر برسم أي شيء...فأنا لا أجيد الرسم...ولم أكن أفكّر بكتابة شيء لأنّني لن أستطيع الكتابة...
- أنتَ لم تحبني بأي يوم من الأيام...
- هل فكّرت جيدا بما تقولينه الآن....؟
- نعم...
لم تكن المقهى خالية تماما...ومع ذلك فلم أكن أسمع شيئا...كنت داخل ذاتي...ولم أكن أسمع ذلك الصوت الذي كان ينفجر داخل رأسي...أحسست بوحدة قاتلة و أنا أغادر المقهى باتجاه الجسر الحديدي...وضعت يدي على رأس "بوتشي" الكلب الذي لا يعرف مثل هذه الحقائق...أخرج لسانه وبدأ بلعق أصابع يدي في ودّ حقيقي...أبعدت يدي عن لسانه اللزج ثم عدت إلى ما كنت فيه من العبث على سطح الورقة البيضاء...دوائر زرقاء...أشياء تشبه الرسوم الطفولية لورود صغيرة....
- هل أحببتني يوما ما....؟...لكم أتمنى أن يكون جوابك صريحا حتى و إن كان موجعا....
- وهل مرّ يوم من دون أن أحبكِ...؟
عندما بلغت الجسر تذكّرت بأنّه وعندما كنت صغيرا...وعندما كنت أرتكب حماقة أعرف بأن نتيجتها سوف تكون الضرب المبرح، كنت آتي إلى الجسر الحديدي و كنت أقضي كامل اليوم بصيد الضفادع...وكانت الحكاية تنتهي دائما بحفلة يشترك فيها الجميع...أبي...أمي...أختي...أخي الأكبر...وكانوا يستمتعون بضربي...جلست فوق الجسر...تماما كما كنت أفعل و أنا صغير..." هل أحببتني يوما ما...؟"...انفجر السؤال داخل رأسي مثل حزام ناسف...هل أحببتها يوما ما...؟...لا أتذكر بأنّني أحببت غيرها...لقد كانت دائما داخل جسدي و كأنّها جزء من كياني...لست أدري إن كان هذا هو الحب...هل انتهى كلّ شيء بهذه السرعة...؟
أحسست بشيء من البرد وأنا أجلس على ألواح الجسر الحديدية و تذكرت حكاياتي القديمة...ما الذي يجعلني أتذكّر كل هذه الأشياء التي انتهت...هل هو هذا الفراغ الذي يملأ رأسي....؟
- هل أحببتَ غيري...؟
- عرفت كثيرا من النساء غيركِ...ولكنّني لم أحبّ غيرك...
- ما الذي جعلك تحبني...؟
- لم أفهم...
- ما هو هذا الشيء الذي جعلك تحبني...؟
- لا أرى الأمور هكذا...الحب بالنسبة لي هو شيء مثل الموت...فنحن نحب فقط...كما أنّنا نموت فقط...هي لحظة واحدة ثم نتحوّل بعدها من حالة اللاحب إلى حالة من الحب الذي يبدو لنا بأنّه وكأنه شيء أزلي....
- لا أفهم هذه الفلسفة...
- هي ليست فلسفة...هي شرح لحالة الحب بالنسبة لي....
- هل تعتقد بأنّنا قد نفترق يوما ما...؟
- لن يحصل هذا إلا متى طلبت مني الخروج من حياتك...
انتبهت إلى "بوتشي" الكلب الذي كان ينبح...وكان الظلام قد عمّ غرفة المكتب...أنرت الغرفة ثم عدت لأجلس إلى الورقة التي كنت أرسم عليها...
وضعت شيئا من القهوة في فنجاني ...ثم ملأت كأسي بما بقي بالقنينة من الخمرة...وكان "بوتشي" مستاء لأنني لم أسقه من الخمرة التي كانت أمامي...سوف لن أحدثه بشيء مما يعتمل داخل الفراغ الذي يسكنني هذه اللحظات...لن أحدثه بما أشعر به...سوف لن أخبره بأنّ شيئا ما قد انفجر داخل أحشائي فمزّقها...
كمال عبد الله...تونس....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق