وضعت الورقة التي كانت بين يديها على طاولة نومها...لقد طوتها جيّدا...و بعناية شديدة...كانت متعبة بعض الشيء و لكنها لم تكن تشعر بالنّوم...لقد استعدّت لِوِحْدَتِهَا كثيرا...تتساقط أضواء الشارع الباهتة على تفاصيل وجهها فتبدو أكبر قليلا ممّا هي عليه...أحسّت بشيء من الحرّ، فخرجت من غرفتها متجهة إلى الحمّام الموجود على أقصى يسار غرفتها...لم تكن مضطربة...و لكن الحرّ الذي كان ينْفَذُ من شقوق النّوافذ كان حادّا و كان يتسلل إلى جسدها الذي كان يرشحُ عرقا فيجعلها تبدو على بعض من الكآبة بالرّغم من أنها لم تكن كذلك...انعكست صورتها على مرآة الحمّام...شعرها يميل إلى السّواد في شيء من الطول...و عيناها تأخذان ألوانا تتأرجح بين الرّمادي الدّاكن و السّواد...انهمر الماء من الحنفية العتيقة على أناملها، فتركته يتخلّلهما مصدرا صوتا مكتوما مختنقا...لم تغير بعد ملابسها...لقد قارب اللّيل على الانتصاف و لكنها لا ترغب بالنّوم...نظرت مجدّدا في وجهها المنعكس على المرآة ثم تساءلت بين نفسها و بينها إن كان مستيقظا بعد...عندما التقته على المقهى الذي كانا يلتقيان عنده، لم يكن بالسعادة التي تعرفه عليها...لقد كان قلقا...بدا لها أنه يخفي عنها شيئا ما...كانت عيناه تتفاديان الالتقاء بعينيها...و كان يشيح بوجهه عنها كلّما حاولت التحديق وراء سوادهما...ألقت بعض الماء عل وجهها ثم نظرت من جديد إلى المرآة التي كانت تعكس صورتها...لقد صبغت شعرها منذ أيام...و قد جعلت فيه خصلة كستنائية...تنحدر على الجانب الأيسر منه...لقد تذكّرته و هو يمسك بالخصلة بين أصابعه فيمررهما عليها مرّات عديدة و هو يهمس في وجهها :
- ما أجملك...
لم تكن تقول شيئا...كانت تحتضنه بابتسامة عاشقة و تصمت...كانت فقط تصمت...تعرّفت إليه منذ عامين...كانت بالمحطة تنتظر وصول قطار الضّواحي...و كانت تحمل الكثير من الأمتعة التي اشترتها من المدينة...كان مظهرها مثيرا للضّحك و هي تحاول السّيطرة على كل تلك الحقائب التي تكاد تسقط...اقترب منها و هو يخفي ما كان باديا من ابتسامته...
- هل تسمحين لي بمساعدتك سيدتي...؟
- لا ...شكرا ..سوف أتدبّر أمري....
لم تحاول حتى النّظر إليه...إنها تتذكّر صوته...لقد كان دافئا...و تتذكّر أيضا أنه لم يبتعد عنها كثيرا...لقد شعرت بأنه يراقبها و هي على كل تلك الحيرة...أفاقت من شرودها على الماء المندلق على أناملها و قد بدأ يميل إلى البرودة قليلا...لم تقفل الحنفية...تركت أناملها تستمتع ببرودة الماء الخفيفة و عادت للنظر إلى وجهها من جديد....كانت المرآة تظهر شيئا من صدرها أيضا...لم يكن حجمه بالمبالغ فيه...لقد قال لها ذات مرة أخرى عندما كانت مستلقية إلى جانبه بأن صدرها يعجبه ...كان يكبرها بسنوات قليلة...لقد كان يستمتع بالغضب الذي كان يحتل كامل تفاصيلها عندما كان يقول لها بأنها عجوز...تتذكّر بأنه أغضبها ذات مرّة حتّى كادت تنفجر في وجهه و لكنها لم تفعل...تتذكّر أنها مدّت يدها إلى جيب قميصه فسحبت منه بطاقة هويته و ما إن تأملتها حتى انفجرت ضحكا....ما الذي ألقى به في طريقها...؟...لقد تعوّدت على حياة الوحدة منذ أن هجرت زوجها...و لم تكن تفكّر بالرّجال و لا بأي نوع من العلاقات...صوت طائر ليلي يقتحم عليها صمتها...لم يكن وسيما...كانت تقاسيمه عادية...و لكن شيئا ما كان يختفي وراء دفء صوته...شيء لا تتبينه...تذكّرته و هو يقترب منها عندما جاء قطار الضواحي...لقد أسقطت الكثير من الأكياس و هي تتجه نحو المقطورة الأولى...حاولت الإنحناء لتناول ما سقط منها و لكنه كان أسرع بفعل ذلك...لم تقل شيئا...تركته يحمل ما سقط منها و يُحاذيها و هي تتجه نحو القطار....اختفى صوت الطائر اللّيلي في العتمة فعادت تنظر إلى وجهها في المرآة...سوف يقرأ غدا ما تركته له على الورقة...لقد تعبت و لم تعد تستطيع الصّمت...
غادرت الحمّام و اتجهت ثانية إلى غرفة نومها محاولة ألاّ تحدث صوتا ...فكّرت بتغيير ملابسها...سوف ترتدي قميصها الكحلي الذي اشترياه معا عندما كانا يتسكعان بين بازارات المدينة...لقد كان شفّافا جدا...عندما طلب من البائعة أن تناوله إياه أحسّت بالخجل...لقد أحست و كأنه ينضو ثيابها عناه...للحظة ما أحسّت بأن البائعة قد دخلت في رأسها لتعرف ما الذي كانت تفكّر فيه...لقد أفاقت ساعتها على صوته و هو يسألها....
- هل يعجبك...؟
لقد أحسّت و كأنها سوف يغمى عليها و هي تمسك القميص الكحليّ بين يديها و تقلبه في خجل شديد...و لم يترك لها حتى فرصة إبداء رأيها...طلب من البائع أن تضعه في علبة جميلة ثم دفع ثمنه و جرّها إلى الخارج في فرح طفل بلعبة جميلة...
دفعت باب الغرفة تريد الدّخول ...و تذكّرته و هو يقف بجانبها في القطار ممسكا بما سقط منها الأكياس...لم تكن لحيته قد حُلقت ليوم أو يومين...كان واقفا بجانبها من دون أن يكلّمها...فكّرت بأنه ربّما قد يكون من النّوع الخجول الذي لا يقيم محادثات مع النساء...اتجهت إلى دولاب ملابسها و أخرجت قميص النوم الذي اشتراه لها...سوف تلبسه هذه الليلة...سوف تلبسه للرّجل الذي أحبّته....صورتها و هي تحاول ترتيب ما تناثر من أكياسها تنفجر داخل رأسها...تتذكّر كيف نظرت في وجهه المائل إلى السّمرة...لم يكن يبدو عليه الارتباك...أو الخجل...كانت تقاسيمه تبدو جافة أكثر مما يوحي به دفء صوته...
لقد نظرت إليه و هي تبتسم في ودّيّة بادية...
- سوف أنزل بالمحطة القادمة...شكرا لمساعدتك لي....
- سوف أنزل معك لأساعدك و قد آخذ القطار الآتي بعد قليل...
نظرت في وجهه مرّة أخرى...و لم تتكلّم...لم تقل شيئا...
ارتدت قميصها ثم ألقت بجسدها فوق السّرير...اتضحت تفاصيل جسدها من خلال القميص الشفّاف الذي كانت ترتديه...التفتت إلى طاولة النّوم أين وضعت الورقة المطوية...أمسكت بها قليلا ثم أعادتها إلى مكانها...و عادت لتفكّر فيه من جديد...تذكرته و هو يسير خلفها صامتا...لم يكن يتكلم...كانت تشعر بصدى صوت حذائه و هو ينتشر حولها...لقد أرادت أن تسأله عن اسمه و لكنها لم تفعل...لقد كانت تتصوره و هو ينظر إلى ظهرها العاري شيئا ما...و عندما وصلت إلى العمارة التي تسكنها مع صديقتها التي تعمل معها التفتت إليه و هي تشعر بأن شيئا ما قد انزاح عن كاهلها....
- أعتقد أني قد وصلت...
ناولها ما كان يحمله من أكياس...لم تكن حركته مرتبكة...كان يبدو شارد الذهن قليلا...
- هل لي أن أعرف اسمَكِ....؟
- اسمي فاتن...
- تشرفنا....تصبحين على خير....
- تصبح على خير....
غادرها إلى المحطة....و اكتشفت و هي تراه يغوص في أعماق الأضواء الباهتة بأنها لم تسأله عن اسمه...تردد صوته و هو يسألها عن اسمها في داخلها...و تذكّرت كم شعرت بالغضب من نفسها و هي تراه يمضي من دون أن تسأله...عاد ذهنها إلى ورقتها الملقاة بجانبها...لم تكتب سوى كلمات قليلة...ربما كانت كل حياتها مُخْتَزَلَةً في ما كتبته...إنها لا تشعر بالنّوم...و لكنها تشعر به و هو ينتفض داخلها....نهضت من مكانها ثم اتجهت إلى النافذة المطلّة على الشارع ...فتحت النافذة...مازالت شجرة الأكاسيا واقفة تنشر ظلّها على الشارع...و غير بعيد عن شجرة الأكاسيا ، التصق عاشقان ببعضهما...ابتسمت ثم ألقت بجسدها من جديد فوق السرير...فمازالت لا تشعر بالنّوم.....
عقارب الثّواني تتحرّك متكاسلة...ثقيلة...على ميناء المنبّه الذي كان إلى جانبها على طاولة نومها...و كانت دقّاته تخترق سمعها الذي كان يلاحق ظلال الشارع المرتطمة بالستائر التي تحجب غرفة نومها عن ضوء القمر الآتي من العيد...لم تفكّر لحظة بأنها سوف تلتقيه مرّة أخرى...لقد نسيت حتى تفاصيل اللقاء الذي جمعهما بقطار الضّواحي...عندما ذهبت في اليوم الموالي إلى عملها ، و عندما وقفت بالمحطة تنتظر قطار الضّواحي ، أحست و كأن عينيها تبحثان عنه...لقد كانت تلتفت بكل الإتجاهات...أغمضت عينيها قليلا و هي تتذكر كيف كانت قلقة على ما تراكم فوق وجهها من المساحيق المرطّبة...إنها لا تفعل ذلك عادة...أو ربّما فعلت ذلك من دون أن تتعمّد فعله...عندما اقترب القطار الذي كانت تستقلّه عادة ، أحسّت بالتوتر ...لقد كانت تتمنى أن يتأخر و لو قليلا...و لكن القطار كان على موعده...قميصها الكحليّ يلتصق بجسدها الذي بدأ يتعرق بفعل الحرارة التي كانت تنتشر في أرجاء جسدها...أبعدته قليلا عن جسدها الرّطب ثم التفتت إلى النّاحية الأخرى...لم تكن ترغب بأن تشعر صديقتها بالغرفة الأخرى بهذا القلق الجميل الذي ينهشها...لم تأخذ القطار الذي توقف بالقرب منها...فالت لصديقتها التي كانت تقف غير بعيد عنها بأنها قد نسيت شيئا ما بالمنزل و أنها سوف تلتحق بها...هل تعمّدت أن تتأخّر لعلّها تراه...هل ارتدت فستانها المخملي حتى يراها به...؟...مدّت يدها في كسل و تناولت المنبّه الذي لم تتوقف عقاربه الغبية عن الدّوران...لقد تجاوزت الساعة منتصف الليل و لكنها مازالت لا تشعر بالنّوم...مازالت تشعر و كأن الليل لن ينتهي هذا المساء...نهضت من على السّرير ، وهي تمسك بالمنبّه بين يديها ثم اتجهت مرّة أخرى إلى الشبّاك...اتّكأت على الجدار المحاذي للنّافذة ثم ألقت ببصرها على الأشجار المنتصبة على جانبي الطّريق...هل كان وسيما...؟..إنها لا تتذكر منه غير صوته الدّافيء...و لم تر من وجهه شيئا يُذكر...بعض التفاصيل التي كانت تتراقص تحت اضواء الشارع الباهتة...و... وقع خطوات مكتومة عندما غادرها أما العمارة التي كانت تسكن شقة منها مع صديقتها...ما الذي يجعله حاضرا فيها كل هذا الحضور...؟...عاودت النّظر في المنبّه الذي كان بين أصابعها ثم ألصقته بخذها المتورّد من فعل الحرارة و عادت تنظر إلى الشارع مرّة أخرى...تهاطلت الصّور على رأسها و هي تنظر إلى الأشجار المنتصبة على جانبي الشارع...تذكّرت أنها قد استقلّت القطار الثاني عندما دخل المحطّة فلم تكن تستطيع أن تتأخر أكثر من ذلك...كانت تشعر بشيء من التّوتّر لأنها لم تره...لقد كانت تتمنى لو كان هناك...كانت تتمنى أن تراه فقط...فلم تكن تريد الحديث إليه...كانت تريد أن تراه فقط...لم تكن تشعر بالقطار و هو يتوقف بكل محطة...فينزل من ينزل من الرّكّاب ...و يصعد من يصعد...كانت عيناها تصطدم بكشل الوجوه التي تعترضها...و لم يكن هناك...لم تتذكر أنها قد رأته من قبل...اخترقت نسمة هادئة شعرها المتناثر فوق كتفيها فأعادت النّظر إلى العقارب التي كانت تدور في بلاهة...
- صباح الخير...
انتفضت في مكانها و هي تستمع لصوته يخترق كتفيها...إنه هو..إنه صوته...و لكنها لم تره داخل المقطورة التي كانت تستقلّها...أين كان يجلس...؟...هل صعد من المحطّة التي توقف عندها القطار قبل قليل...؟
- صباح الخير...
- هل أزعجتكِ...؟
- لا ...لم تزعجني...لقد...فاجأتني ...
أمسكت بظهر الكرسي الذي كانت تقف بجانبه...لقد أرادت أن تلتفت...كانت تريد أن ترى الوجه الذي يختفي خلف الصّوت الدّافئ...و لكنها لم تقدر...لقد أحسّت بأن أعصابها قد أصيبت بشلل تام جعلها عاجزة عن الحركة...اختفت أصوات عقرب المنبّه و اختفت ظلال الأشجار المتناثرة على جانبي الطّريق الممتدّ في صمت حتى يختفي داخل شوارع أخرى لا تراها...كان واقفا خلفها...إنها تشعر بجسده يقترب منها...إنها تشعر بأنفاسه تنتشر على رقبتها...
- هل ستذهب إلى العمل...؟
- نعم...لقد تعطّلت سيارتي منذ أيام...و أنا مظطر لأخذ القطار...
- هل تعمل بالمدينة...؟
- نعم أعمل بشركة بالمدينة....و أنت...؟
عادت إلى فراشها مرّة أخرى...ارتمت فوق السّرير ثم وضعت المنبه فوق طاولة النّوم البنيّة و في لحظة ما سقط بصرها على الورقة البيضاء الموضوعة بعناية قرب المنبّه...أمسكت بها بين أناملها المظطربة شيئا ما ثم فَرَدَتْهَا و أخذت تتأملها...هل أصلح سيّارته...لقد قال لها بأن الأمر لن يستغرق الكثير من الوقت...ابتسمت و هي تتذكر صديقتها و هي تنظر في وجهها و في ملامحها التي كانت أكثر هدوءً...
- هل أنت عاشقة...؟
لم تقل شيئا...تذكّرت أنها نظرت في وجه صديقتها بشيء من الفرحة المكتومة ...و لم تقل شيئا...طَوَتْ ورقتها بعناية شديدة ثم وضعتها قرب المنبّه و استلقت على ظهرها مثبّتة بصرها على الفانوس الذي كانت ظلاله تتراقص على السقف...و تركت خيالها يرحل خلف دقّات قلبها التي كانت تنتفض داخل صدرها...أحسّت بأن النوم يطاردها...فاستسلمت للخيالات التي كانت تتراقص فوق أجفانها..
كمال عبد الله...تونس....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق