أستيقظت على برودة جامحة تخترق جسدي حتى النخاع لأجد نفسي ممددا على طاولة معدنية في وسط غرفة واسعة خلت من الأثاث إلا من هذه الطاولة، الغرفة ذات جدران بيضاء متسخة ويتدلى من سقفها خطاتيف مما يعلق عليها اللحوم في المجازر والثلاجات .
كانت الغرفة تكتنفها برودة لا أعرف مصدرها؛ سرت بسببها القشعريرة في جسدي .
حاولت النهوض، لكنني لم استطع على الرغم من عدم وجود ما يقيدني بالطاولة؛
لقد كنت ملتصقا بها، نعم ملتصقا بكل معنى الكلمة !
حاولت ان أفتح فمي لأصرخ مناديا؛ عسى ان يهب أحدهم لمساعدتي إلا انني لم استطع هذا أيضا؛ فقد كانت شفتاي هي الأخرى ملتصقة ببعضهما تمام الألتصاق!
أجتاحني هلع، جعلني اهز جسدي بجنون، عله ينفصل عن الطاولة،
مصحوبا بصوتي المكتوم دون جدوى حتى خارت قواي.
في هذه اللحظة، ترامت إلى مسامعي وقع خطوات تسير على مهل، حتى أصبحت على مقربة مني .
من صوت الخطوات أدركت انها لسيدة تنتعل حذاء بكعب عالي،
و عندما أصبحت في مرمى بصري أخذت ارقبها بتوتر بالغ،
كانت تقترب مني في هدوء يكاد يكون برود غير عابئة بنتظراتي المرتعبة المصوبة إليها، مرتدية زيا جلديا اسود لامع يضم جسدها بحزم فاضحا تناسقه،
بينما شعرها معقوص بصرامة للخلف على هيئة ذيل حصان.
صورة كلاسيكية لأمرأة سادية خارجة للتو من فيلم رعب ألعب انا فيه دور الضحية! .
وقد كان توتري يزداد مع كل خطوة تخطوها؛ فتقرّيها مني و انا بهذه الحال لا حول لي ولا قوة،
الا ان عيناي أتسعت من الدهشة عندما اتضحت ملامحها وأدركت أنها.. زوجتي!
أستقبلت دهشتي بابتسامة سخرية، ثم نظرت إلى جسدي المسجى أمامها على الطاولة بإمعان، لترفع يدها فيلمع شيئا معدنيا صغيرا تحمله بين أصابعها لا يزيد طوله عن طول أصبع السبابة لديها؛ إلا أن لمعانه ينبأ عن مدى حدته .
حملقت فيه لبرهة حتى أدركت أنه مشرط فهوى قلبي عند قدمي و جحظت عيناي رعبا وانا أراها تنتقي بأى منطقة تبدأ؛ فندت عني صرخات مكتومة جعلتها تنظر صوبي مباشرة، فتلتقي أعيننا في نظرة صامتة أتاحت لي رؤية كم هائل من الجفاء والقسوة قد سكنت عيناها و أستقرت بهما، وهو ما لم أعهده فيها ابدا طيلة حياتي معها،
ووجدتني أسأل نفسي: _"من أين أتت بهما ؟"
ليقطع صمت اللحظة صوت ضحكة هستيرية حادة صادرة عنها، أعقبتها بحديث قائلة:
_أ و حقا تسأل من أين جاءت قسوتي؟.
أزدرت ريقي و معها دهشتي، من أين علمت بحديث دائر بيني و بين نفسي؟!
_ لا يهم كيف علمت!
اجابت بحدة، ثم أكملت بنفس الحدة:
-المهم أجابة سؤالك، و سأجيبك.
أخذت تدور حول الطاولة بعصبية، فيما شرعت تقول:
- مبدئيا من صلفك و غرورك، فأنت دائما على صواب و انا دائما على خطأ، رأيك قانون و رأيي شئ تافه لا يعتد به.
انهت جملتها و قد هوت بمشرطها على ذراعي الأيمن؛ محدثة به قطع غائر تدفق منه الدم بغزارة و تلوت معه أحشاءي من شدة الألم.
ثم تابعت غير مكترثة لتأوهاتي المكتومة :
-أستهانتك بذكائي و قدراتي، و انتقادك الدائم لكل أفعالي؛ لتحقق تفوقا وهميا لا يوجد سوى بخيالك المريض؛ فيرضي غرورك و يخفف عنك وطأة شعورك بالنقص.
و مع الكلمة الأخيرة هوت مرة أخرى بمشرطها ،هذه المرة على فخذي الأيسر؛ محدثة قطعا أخر لا يقل ألما عن سابقه.
و توقفت برهة تتأمل جسدي المرتعش من الألم مصحوبا بأنيني المكتوم بتلذذ لم تحاول إخفاءه،
ثم تابعت :
_ و ماذا عن كل تلك التفاصيل الصغيرة التي قد تسعد و قد تتعس أيضا؛ عيد ميلادي ، عيد زواجنا ، أتصالك عند تأخرك في عملك حتى لا ينتابني القلق،
سؤالك لى عن أحوالي و كيف قضيت يومي أثناء غيابك، أبتسامتك في وجهي عند أقبالك و توديعك لي عند أدبارك ،
كلها أشياء تجاهلتها متعمدا حتى ..حتى تلك الأشياء التي أحبها او أكرهها من توافه الأمور، حتى تلك تجاهلتها عن عمد .
و خلال حديثها السابق كانت قد غيرت من استراتيجيتها؛ فهي لم تنتظر حتى تنهي حديثها لتسقيني من مشرطها شراب الألم اللاذع الموجع، بل كانت مع كل تفصيلة تذيقني أياه بمنتهى العنف و القسوة حتى شعرت بأن قلبي سيتوقف من شدة الالم .
و يبدو أنها أدركت ذلك و لسبب ما خشيت حدوثه، حيث اقتربت مسرعة من صدري تتسمع نبضاته ثم نظرت إلي بمرارة قائلة :
- و قلبك هذا و وعده لي بالحب و السعادة بعد الزواج، لِما حنث به؟
أغمضت عيني و انا أستقبل مشرطها يغمد في صدري بلا رحمة ،
لتشخص عيني تجاه سقف الغرفةبينما كان جسدي ينتفض كدجاجة
مذبوحة.
و هنا هدأت نبرة صوتها و هي تقول:
-لا تمت؛ لم ننتهي بعد!
كان صوتها كأنما يأتي من مكان بعيد، أو ربما كنت انا من يذهب إلى مكان بعيد.
شعرت بأنفاسها الحارة تغمر وجهي البارد و هي تقترب لتنظر في عيناي الشاخصة نحو السقف، لتكن صورة وجهها أخر ما تراه عيني، و هي تمضي في حديث هادئ :
_ فمازال هناك عقلك الذي صور لك أحقيتك في أمتلاكي وأستغلالي وأستعبادي بعقد زواج !.
و كانت طعنة مشرطها الأخيرة بين عيناي لينتفض جسدي بعدهانفضته الأخيرة أيضا،
بينما تحلق روحي إلى عنان السماء مثقلة بتساؤل يبدو أنه سيؤرقها إلى أبد الأبدين:
_ و هل ستمنحني يوما حق الغفران؟!
أستيقظت فزعا من نومي بجسد يتصبب عرقا و أنفاس متلاحقة و لعابا جافا جعلني أتجرع كأس ماء كان بجواري جرعة واحدة، ثم أسرعت إلى المرآة انظر إلى جسدي غير مصدق إن مامررت به ما هو إلا كابوس مفزع،
و تلفت حولي ناظرا لأشيائي التي أءلفُها مؤكدا لنفسي أنه فعلا مجرد كابوس شملني انا و زوجتي.
لكن أين هي زوجتي؟! و هرعت اجوب المنزل باحثا عنها لأجدها في المطبخ تستعد لتقطيع اللحم بسن السكين، و قد استقبلتني بأبتسامة و دودة و هي تقول:
_ استيقظت اخيرا .
أومأت برأسي إيجابا، و قد تعلقت مقلتاي بنصل السكين في ذهابها و إيابها على المسن ، سرت في جسدي رعشة لم تكن بغريبة جعلتني انقض على يديها ضاما أياهما بقوة بين راحتي ساحبا السكين برشاقة من بين أصابعها بينما أقول بصوت مضطرب :
- حبيبتي ما رأيك بعشاء في الخارج.
أجابتني بستنكار
- و ما المناسبة؟!
أجابتها :
- بمناسبة حبي الذي يزيد لكِ يوما بعد يوم .
فغرت فاها و هي تسمع كلماته، و تراه يرفع يدها لشفتيه فيلثم اناملها بعذوبة و تودد، ثم يستطرد في حديث طويل عن رغبته في إصطحابها في اجازة طويلة إلى ذلك المكان الذى طالما أرادت الذهاب إليه و أنهما يجب عليهما تغيير روتين حياتهما من وقت لأخر و أنه يتمنى أن تغفر له انشغاله عنها و أنه سيعوضها عن ذلك كله و ...
و هي غارقة في هواجسها تسأل نفسها و الريبة تكاد تقتلها :
- و أي ذنب أقترفت في حقي هذه المرة؟
لتتنبه على صوته يناديها، فتنظر له بأعين مترددة بينه و بين السكين الموضوع على طاولة المطبخ الخشبية !
تمت
رشا فوزي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق